المولد النبوي

الدكتور عبد الله الجباري

الحمد لله الذي شرّف هذا الوجود بميلاد أكرم نبي وأعزّ مولود، سيدنا محمد النبي المقدّس المحمود، صاحب الشفاعة العظمى والحوض المورود، عنصر الفضائل المشهود، وكريم الأمهات والآباء والجدود، نخبةِ العالمِ، وسيّد ولد آدم، من انتقل في الغُرَر الكريمة نوره، وأضاء الكونَ ميلادُه وظهورُه، وطلعت شموس الهداية والعرفان، بانفلاق صبحه على كل الأكوان، أرسله ربه بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا، وجعله داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، اختصه بالقرآن، وميزه بجوامع الكلم وفصاحة اللسان، فرض على الناس طاعته، وأوجب عليهم محبته، فاللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله، وزده رفعةً ومكانة لديك، وارض اللهم عن صحابته المطهرين، ومن اقتدى بهم وسلك سبيلهم من التابعين.

أما بعد، فأول ما نبدأ به الإملاء، ونشنف به الأسماع، ونفتتح به هذا المجلس المبارك، ذِكرُ النسب الشريف الميمون، لصاحب الذكرى العطرة، صلوات ربي وسلامه عليه.

هو سيدنا محمد بنُ عبد الله بنُ عبد المطلب، واسمه شيبةُ الحمد، بنُ هاشم واسمه عمرو، بن عبد مناف واسمه المغيرة، بن قصي واسمه زيد، بن كلاب واسمه حكيم، بن مرة بن كعب بن لؤي، بن غالب بن فهر واسمه قريش، بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة، بن إلياس بن مضر بن نزار، بن معد بن عدنان. وعلى هذا القدر اتفق ذوو العلوم النسبية، ولم يختلفوا في أن عدنان من ولد إسماعيل بنِ الخليل إبراهيم عليهما السلام.

واحفظ أصول المصطفى حتى // ترى في سلسلات أصوله عدنانا

فهناك قِفْ واعلم برفعه إلى إســ // ــماعيلَ كان للأب مِعْوانا

وهو نسبٌ أثيلٌ شريفٌ، ومَحتدٌ طيبٌ منيف، اصطفى الله تعالى نبيه واختاره من أزكى القبائل وأفضل البطون، فهو نُخبة بني هاشم، وسلالة قريش وصَميمُها، وأشرفُ العرب وأعزُّهم نفرا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش، واصطفاني من بني هاشم”، فهو صلى الله عليه وسلم خيارٌ من خيار من خيار.

روى العباس بن عبد المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وقال: “من أنا؟”، قالوا: أنت رسول الله، قال: “انا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خيار خلقه، وجعلهم فريقين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعل لهم بيوتا، فجعلني خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، وخيركم نفسا”.

وعن جبريل عليه السلام قال: “قلّبتُ مشارق الأرض ومغاربها، فلم أر رجلا أفضل من محمد، ولم أرَ بني أبٍ أفضل من بني هاشم”.

طهّره الله تعالى من سفاح الجاهلية إكراما له وإرضاء، فما تسلّلَ شيءٌ من الأدران إلى نسَبه الشريف، فكان نورُه ينتقل من الأصلاب الطاهرة، إلى الأرحام الزاكية، إلى أن اتصل بأبيه عبد الله بن عبد المطلب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء”. وهذا الحديث دليل وبرهان، على طهارة نسبه الشريف، وهي الطهارة التي لا تحتاج إلى بيان، ولم يُعوزها بُرهان، ولم يتنازع في أمرها اثنان، فهو الطاهر المطهر أمّا وأبا، الطيب المطيّبُ أصلا ونسبا.

حفِظ الإلهُ كرامةً لمحمد // آباءه الأمجاد صونا لاسمه

تركوا السفاح فلم يُصبهم عارُه // من آدمٍ وإلى أبيه وأمّه.

لم يزَل النور النبوي يُتقَلّبُ في الظهور القرشية، حتى وصل إلى جده ذي المكارم، عبد المطلب بن هاشم، فاستضاء جبينه وازْهَرّ، وسُرَّ بذلك واستبشر، وكان عبد المطلب سيّدَ قريش وشيخ الحرم، قد أتاهُ آتٍ وأشار إليه بحفر زمزم في منامه، ولمّا لم يجد في الحفر مساعدا غير ابنه الحارث، نذر لئن كمُل له من الولد عشرة، ليذبحنّ منهم واحدا، فأراد بعد كمال العشرة بعبد الله الوفاء بنذره، فأقرعَ بينهم وفيهم عبد الله، وهو يكره أن يخرج السهم عليه لشدة حبه إياه، كحب يعقوب ليوسف أو أشد، فكانت القرعة على غير مراده، ومنعته قريش من ذبحه، ففداه بمائة من الإبل، وما ذلك إلا ببركة النور المحمدي الذي انتقل إليه من أبيه عبد المطلب.

ولمّا فُديَ، أدركت امرأةٌ منه ذلك النور، فخطبته لنفسها فأبى، ثم أتى به وهبَ بنَ عبد مناف، والدَ أمنة ذات الشرف والعفاف، راغبا في أن يزوجه آمنة، ليكون ذلك سببا لظهور الخيرات الكامنة، ولما استقر النور الإلهي في رحمها الميمون، حصلت من الشرف والسؤدد ما لم يحصل لأنثى على مر العصور، فشرّفها الله واجتباها، وعن سائر النسوة اصطفاها، لتكون أمّا لحبيبه ومصطفاه، ووالدةَ خليله ومجتباه.

لمّا دنا وقتُ البُرُزِ لأحمدٍ // عن إذنِ مَنْ ما شاءهُ قَدْ كانا.

حملتْ به الأمُّ الأمينةُ بنتُ وهبٍ // مَنْ لها أعلى الإلهُ مكانا.

مِنْ والدِ المختار عبدِ الله بنِ // عبدٍ لِمطَّلِبٍ رأى البُرهانا.

قد كان يغمرُ نورُ طه وَجْهُهُ // وسرى إلى الابنِ المَصونِ عِيانا.

وبعد ذلك، مات عبد الله بالمدينة المنورة العظيمة المقدار، وكان إذ ذاك عند أخواله بني النجار، وبعد تمام الأشهر التسعة، آن للدنيا أن تتعطر وتتبخر، وآن لها أن تتشرف بسيد الوجود، فأخذَ أمَّه المخاض، وولدته نورا متلألئا، وبرز إلى الوجود رافعا رأسه إلى السماء، إشارةً منه وإيماءً على علوّه وسؤدده ورفعة قدره.

رافعا رأسه وفي ذلك الرفــ // ــع إلى كل سؤدد إيماءُ.

رامقا طرفُه السماءَ ومرمى // عينِ من شأنهُ العلوُّ العلاءُ.

وبدَت عند ولادته خوارق ظاهرات، ومعجزات واضحات، تدل على نبوته، وتُعْلِمُ بأنه المختار المجتبى الإمام، وحكت أمه أنها لم تحس بثقل حمله كما تحس النساء، وأن نورا خرج معه عند ولادته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام”.

وتلقّاه جده عبد المطلب وحباه، وأكرمه وأدناه، وسماه محمدا ليكون محمودا في الأرض والسماء، وتحققت له الأمنية والرجاء، فكان حقا محمودا في الأرض والسماء، وأعلن السرور بمولده عمه أبو لهب، وأعتق من شدة الفرح من جاءته بالبشرى، فعمت الفائدة المبشّرَةَ والمبشَّر، فوضع عن الأولى الرق، وخفف عن الثاني العذاب كل يوم إثنين، كل ذلك بسبب الفرح بمولده صلى الله عليه وسلم.

وسمّاه الله تعالى في القرآن الكريم بعدّة أسماء، منها السراج المنير، والبشير النذير، والمزمل والمدثر، بل أكرمه الله بأن خصّه ببعض أسمائه الحسنى، فسمّاه النور، والرؤوف، والرحيم، وغيرهَا مما يدل على شرف المسمى ونُبل قدره، وعلو منزلته، وسمُوّ رتبته.

وبعد أن أرضعته أمه آمنة بنت وهب، أرضعته ثويبة جارية عمه أبي لهب، وكانت قد أرضعت من قبل عمه حمزة بن عبد المطلب، ثم رافق سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم حليمة إلى بيتها، بعد أن أبته المرضعات ليتمه، فعمَّ الخير والسعد كل بني سعد، وانقلب ما كان عندها من محل وجدب، إلى نعيم وخصب.

وأرضعتْهُ ولم تيأس حليمةُ من // قول المَراضعِ إن البؤسَ في اليَتَمِ.

ففاض بالدر ثدياها وقد غنِيَتْ // ليالياً وهي لم تطعَم ولم تَنَمِ.

وقلّصَ الجدبُ عنها فهي طاعمةٌ // من خير ما رَفَدتْها ثَلَّةُ الغنَمِ.

وكيف تَمْحَلُ أرضٌ حلّ ساحتها // محمدٌ، وهو غيثُ الجود والكرم؟

ولما أرجعته حليمة إلى جده وأمه، بعد حادثة شق الصدر الشريف، من قِبل الأمين جبريل عليه السلام، رافق أمه آمنة في زيارتها إلى المدينة المنورة لزيارة أبيه وأخوال جده بني النجار، وأثناء العودة إلى البيت الحرام، وافى أمَّه الحِمام، وخلّد الله ذكرها بأن كانت أمَّ سيد الأنام، عليه الصلاة والسلام، وبقي في كفالة جده، وبعده عند عمه أبي طالب الذي كان يحبه حبا شديدا لا يحب مثله أحدا، وصاحَبه في رحلته إلى الشام، ولما قوي واشتد عوده، رعى الغنم بقراريط لأهل مكة، ومارس التجارة في مال خديجة، وظهرت عليه من الأخلاق والخصال ما دعتها إلى الزواج به، فخطبته لنفسها وهي الشريفة الأبية، وكانت أم بنيه ذوي الأقدار العلية، إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية.

ولما أعادت قريش بناء الكعبة، اختلفوا في الأحق بوضع الحجر الأسود حتى همّوا بالقتال، ثم احتكموا إلى أول داخل من باب بني شيبة، ولم يكن غير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يجعلوه في ثوب عريض طويل، ثم يرفعه من كل قبيلة رجل نبيل، فإذا أوصلوه إلى موضعه أخذه النبي صلى الله عليه وسلم وثبّتَه فيه، فكان أن وضع النبي السيد الشريف، الحجرَ الشريف، بيده الشريفة، في ركنه الشريف، من الكعبة المشرفة.

فليزدد الركن تِيهاً حيث نال به // فخراً أقام له الدنيا على قَدَمِ.

لو لم تكن يدُ مسّته حين بنى // ما كان أصبح ملثوما بكل فمِ.

يا ليتني والأماني ربَّما صدقت // أحظى بمُعتَنَقٍ منه ومُلتَزَمِ.

وعند تمام الأربعين، بعثه الله إلى العالمين، فكان بشيرا ونذيرا، وبدئ بالرؤيا الصادقة الصالحة، وحبِّب إليه الخلاء،  فكان يتعبد في غار حراء، ويبقى هنالك ليالي عديدة، إلى أن أتاه سيدنا جبريل عليه السلام بـ(اقرأ باسم ربك الذي خلق)، فآمن به من سعِد، وكفر به من شقِي.

وبعد وفاة عمه وزوجه في عام الحزن الكئيب، اشتدّ الأمر عليه وصعُب، وآذته قريش في نفسه ومن صَحِب، فتوجه نحو الطائف علّه يجد صدى لدعوته عند ثقيف، لكنهم لم يؤمنوا به، بل أغروا به سفهاءهم، وحرضوا عليه صبيانهم، وضربوه بالحجارة حتى سالت دماؤه الزكية، ولحِلمه ورأفته، لم يدعُ عليهم رغم أنه مستجاب الدعاء، بل رجا الله تعالى أن يُخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ويوحده، ويحمل همّ الدعوة وأعباءها، وكذلك كان.

كثُر الأذى وهو الصبور لربه // وهو الشكور وكان لا يتوانى

ماتت خديجة وأبو طالب في الْــ // ــخَمسين فاشتدَّ الأذاءُ فُنونا

وأتى ثقيفاً داعياً فرموهُ بالــ // ــحجارةِ، بل أغروا به الصبيانا

ملَكُ الجبال أتى، فقال: أطبِقُها // فقال: لا، بل أرتجي العُقْبانا.

وبعد محنة الطائف، أكرمه الله تعالى بالإسراء والمعراج، روحا وجسدا، والتقى بالأنبياء وأمّ بهم في المسجد الأقصى المبارك، وفي ذلك كرامةٌ من المولى الوهاب، وتثبيت لفؤاده الشريف ومواساة، وارتقى إلى حيث لا يرتقي أحد، فقرّبه منه المولى وأدناه، وتشرف بسماع كلام ربه ومولاه.

فيَا لها وصلةً نال الحبيبُ بها // ما لم ينلهُ من التكريم ذو نَسَمِ

ثم أذن له ربه بالهجرة نحو المدينة النبوية، ففارق مسقط رأسه، رغم أن مكة هي أحبُّ البقاع إلى قلبه، ووقعت له في الهجرة من المعجزات ما لا يخفى، منها تجميع قوائم فرس سراقة وانغراسها في الأرض، وبعد ذلك تلقاه الأنصار من الأوس والخزرج بالقبول والترحاب، فهوّن على قلبه ما لقي في الهجرة من الصِّعاب، وأقام في قباء أياما أدركه فيها علي بن أبي طالب، بعد أن أدى عليه الودائع إلى أصحابها، وأسّسَ بها مسجدا وصفه الله تعالى بقوله: “لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحقّ أن تقوم فيه”، وبعد ذلك واصل المسير إلى المدينة، فدخلها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأنور.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكملَ الناس في الخَلق، وأجملَهم في الذات، وأفضلهم في النعوت والصفات، لم يكن بالطويل ولا بالقصير، وهو إلى الطول أقرب، بعيدَ ما بين المنكبين، أسيلَ الخدّين ليِّنَهما، إذا وضع رداءه عن منكبه فكأنه سبيكة فضة.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملا في ذاته، مكمَّلا في صفاته، ما خلق الله قبله ولا بعده مثله في الأنام، أزهرَ اللون أبيضَ مُشرَبا بالحُمرة، أسودَ الشعَر عظيمَ اللحية، شديد الهيبة، وجهُهُ الشريف كأنه البدرُ ليلةَ التّمام، قمريَّ الجبين، حواجبه هلالية، كحيلَ الطرف أهدبَ العين، يجري الحُسنُ في خدَّيْه كما تجري الشمس في مشارقها الفَلَكية، مفلّجَ الأسنان، جميلَ الابتسام، إذا تكلم خرج النور من بين ثناياه اللؤلؤية، خرقَ اللهُ العادةَ في جميع حواسّه وأعضائه، فلم يكن شيء منها على وَفقِ ما يتعارفه الناس في إجرائه، كان يرى من خلفه وورائه، كما يرى من أمامه وتلقائه، وإذا نامت عيناه فقلبُه الشريف لا ينام، وكانت رائحتهُ أطيبَ من المسك والعنبر وكلِّ طِيب، بل كان الصحابة يجعلون من عَرَقِه في طيبهم لتزدادَ رائحتُه ويَطيب.

لم يرَ الراؤون أحسن من رسول الله، ولم ير الراؤون أجمل من رسول الله، ولم ير الراؤون أكمل من رسول الله.

قال أبو هريرة: “لم أر قبله ولا بعده مثله”، وقال علي بن أبي طالب: “من رآه بديهة هابه”، أي: من رآه فجأةً هابَه لما عليه من المهابة الإلهية، لأن قلبه الشريف ممتلئ بعظمة مولاه ومحبتِه وإجلالِه، وذلك يورث المهابة المذكورة.

أخرج الإمام الترمذي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ إضحيان، (أي: مقمرة) وعليه حُلّةٌ حمراء، فجعلتُ أنظرُ إليه وإلى القمر، فهو عندي أحسنَ من القمر”.

وقال كعب بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.

روح من النور في جسم من القمر // كحُلّة نُسجت بالأنجم الزُّهُر

الأنوار من نوره في نوره غرقت // والوجه منه طلوع الشمس والقمر.

شبَّ النبي صلى الله عليه وسلم بين عشيرته وقومه كأكمل ما يكون الشاب العفيف، صِدقُ لهجة، وصفاء نفس، وعفة يد، وترفُّعٌ عن سفاسف الأمور، وعلوّ همة إلى آفاق بعيدة من السمو الروحي، لم تُعرف عنه نزوةٌ من نزوات الصبا، ولا أُثِرَت عنه هفوةٌ من هفوات الشباب، لا جرَم ان أطبق أهل مكة على تسميته بالأمين، لأنهم خبروا فيه صفات لا تكون إلا للملائكة الأطهار.

ثم أكرمه الله تعالى بالوحي، وزانه بالنبوة، فكمُلت صفاته، وتمّت – حُسناً- خلالُه، وامتُحن في تبليغ الرسالة بأنواع من الإيذاء، كما امتحن إخوانه الرسل والأنبياء، فقابَل ذلك كلَّه بصبر لا يعتريه وهَن، وحزمٍ لا تشوبه خشونة، وحلمٍ تطيش دونه الأحلام، ومثابرةٍ على مدافعة سفاهة قومه بالحجة البليغة، والمنطق السليم، ولو شاء دعا عليهم كما دعا النبيون قبله، وأجيب فيهم كما أجيبوا، لكنه لم يفعل، لأنه أرسل رحمة للعالمين، وهو –إلى هذا- بالمؤمنين رؤوف رحيم، حتى أذن له في الجهاد، حيث لم تنجح الحجة في نفوسٍ عزّ عليها ترك الباطل، أبدى في معاملة أعدائه الجاهدين في إيذائه منتهى السماحة والكرم، ناهيك بقوله عليه الصلاة والسلام لأهل مكة عام الفتح، وهو يرسُفون في قيود الذل، خاشعين ينظرون من طرف خفي، “أقول لكم كما قال أخي يوسف، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء”. 

إنه الإنسان الكامل، والمَثَلُ الأعلى للخُلق الفاضل، سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلقه، فقالت: كان خلقه القرآن، لأنه تحلى بما في القرآن الكريم من معاني الكمال والآداب وصالح الأخلاق. أما الله تعالى فأثنى على أخلاقه ثناء يقصر عن عليائه كل ثناء، ويعجز مصاقع البلغاء عن محاكاته والنسج على منواله باعتراف منهم وإقرار، “وإنك لعلى خلق عظيم”، فأعظِم به من ثناء! وأكرِم بها من شهادة! 

ومن جميل سجاياه وعظيم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، أنه كان مضرب المثل في الصدق والأمانة، أشدَّ حياء من العذراء في خدرها، شديدَ التواضع، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، يداعب الصبيان ويحنو عليهم، يحب المساكين ويجالسهم، ويدعو الله أن يحشره معهم، لهذه الصفات والأخلاق، أحبّه كل من عرفه أو خالطه، وأسكنَه قلبَه ووجدانه، وقدّمَه على أهله ونفسه، وبذل كل شيء في سبيل طاعته ورضاه.

بعد الاطلاع على سيرته ومسيرته، وبعد التعرف على معجزاته وما خصه به الله تعالى من خوارق العادات، وبعد معرفة صفاته الجسمية، وأوصافه البدنية، وبعد دراسة أخلاقه وشمائله، يحق لنا أن نتساءل: هل عرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا؟

لم يعرف حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد في العالمين، لأن حقيقته سر لطيف من أسرار الله تعالى، وسرٌّ مكنون، وأمرٌ مصون، انفرد به الله تعالى عن سائر خلقه، فعجزنا عن إدراك جماله وعقله، وجاهه وعلومه، وعبوديته وخوفه، ورجائه وزهده، وتواضعه وشفقته، ورحمته وجوده، وقد عجزت السيدة عائشة رضي الله عنها مع موفور عقلها عن إدراك حقيقة شكره، فدعته إلى التقليل من القيام لما تورمت قدماه، فقال لها: “أفلا أكون عبدا شكورا” تعريفا لها بكمال من كمالاته، فإذا كان هذا من السيدة عائشة مع ما لها من موفور العقل، وطول المخالطة، فما بالنا نحن، لذا قرر العلماء الربانيون أننا لم ندرك سوى ظاهر صورته المحمدية، أما حقيقته فلم نحط بها خبرا، رحمةً من الله بنا، ولله در سلطان العارف الذائق إذ يقول:

أعيى الورى فهم معناه فليس يرى // للقرب والبعد فيه غير منفحم

نعم، أعيى الورى وتعبوا من أجل فهم الحقيقة المحمدية، ولم يكن لهم من نتيجة سوى العجز والقصور والتقصير، ويكفي أن ندرك أنه نور بصريح نص القرآن، “لقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين”، وورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله تعالى بقوله: “اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، واجعل لي نورا”. وإذا كان نورا باطنا وظاهرا، فكيف نستطيع إدراك حقيقته صلى الله عليه وسلم؟ 

له جمع الله المعاني بأسرها // فظاهره نورٌ، وباطنه قدسُ.

ولأنه كذلك، كان طاهرا حيا وميتا، فبقي ثلاثة أيام بعد موته قبل أن يُدفن، لأنه محفوظ من التغير الذي يطرأ على سائر البشر.

ولأنه كذلك، ابتدر الصحابة نخامته، وشربوا دمه الزكي بعد الحجامة، وتطيبوا بعرقه الشريف، وكل هذا من المستقذر المنبوذ عند عامة البشر.

ولأنه كذلك، فإنه يحمد الله تعالى يوم القيامة بمحامد لم يسبقه إليها أحد.

ولأنه كذلك، فإنه لم يعرف حقيقته أحد، ولا يسعنا إلا أن نجتهد في مدحه والثناء عليه، ووصفه بسني الصفات وجميل النعوت، وحميد الخصال، سائر المكرمات.

قل ما تشاء فأنت فيه مصدّقُ // الحب يقضي والمحاسن تشهدُ.

ورغم الاسترسال في ذلك والتفنن فيه، فإن أحدا لن يصل إلى توفيته حقه، لأن كمالاته لا تحصى، وصفاته وشمائله لا تستقصى، فلا نحيط إلا بالقليل من الكثير.

وعلى تفنن واصفيه بوصفه // يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف.

ولله در الإمام البوصيري:

فإن فضل رسول الله ليس له // حد فيعرب عنه ناطق بفم.

هذا هو رسولنا المبجل، وحبيبنا المفضل، ونبينا الكامل المكمل، الذي استنارت الدنيا بولادته، وشرُفت السيدة آمنة بوضعه في لية اثنين من ربيع الأنور عام الفيل.

السلام عليك يا نبي الرحمة.

السلام عليك يا شمس النبوءة والرسالة.

السلام عليك يا منقذ البشرية من الضلالة.

السلام عليك يا خاتم النبيئين.

السلام عليك يا إمام المرسلين.

السلام عليك سيد الأبرار.

السلام عليك يا زين المرسلين الأخيار.

السلام عليك يا صاحب الحوض المورود.

السلام عليك يا صاحب المقام المحمود.

السلام عليك يا صاحب الوسيلة والفضيلة.

السلام عليك يا صاحب الدرجة الرفيعة.

السلام عليك يا شفيع المذنبين.

السلام عليك يا صاحب الخلق العظيم.

السلام عليك يا رسول الله.

السلام عليك يا حبيب الله.

السلام عليك يا خليل الله.

السلام عليك يا خير خلق الله.

بقلم الدكتور عبد الله الجباري، حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية
له مقالات منشورة في مواقع إلكترونية وفي مجلات علمية، شارك في ندوات بالمغرب والجزائر والسعودية وموريتانيا.

من مؤلفاته:

الاجتهاد الفقهي عند الحافظ عبد الله بن الصديق الغماري. 2011

الاجتهاد في الدرس العقدي عند الإمام عبد الله بن الصديق الغماري. 2018.

الإرث في الإسلام، فلسفته، قطعياته، آفاق الاجتهاد فيه. 2019.

ابن العربي الحاتمي، مطارحات نقدية على البساطات الأكبرية. 2019.







Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *